التخطي إلى المحتوى

الشارقة: عثمان حسن

في حركة التشكيل الإماراتي، ثمة دور مشهود، سطّرته الفنانات الإماراتيات على وجه الخصوص، وهؤلاء برعن في الإحاطة بكافة القضايا والتفاصيل التي تخص المجتمع الذي يعشن فيه في صلته بالعالم الخارجي، وكانت هذه الإحاطة ذات بعد ثقافي ومعرفي، سجل للمرأة التشكيلية حضوراً فاعلاً ومؤثراً، أولاً، في بعدها الخليجي والعربي، وثانياً في صلة ذلك كله بما يدور في العالم من قضايا فنية وثقافية وفكرية، وما أفرزه ذلك كله من تحولات، برزت في تلك النقلة النوعية في مستوى تفاعلها السردي والجمالي بوجه عام.

لقد نجحت الفنانة التشكيلية في الإمارات، في الإضاءة على مختلف القضايا التي تهجس بها، سواء في البيئة، أو في إحساسها بالمكان والزمان، وفي تفاعلها الفني مع ثيمة التراث، وغيرها من القضايا المهمة.. غير أنها نجحت كذلك -وهذا موضوع مهم- في التعبير عن قضايا المرأة ذاتها، من خلال تناولها كثيمة رئيسية في كثير من الاشتغالات والتجارب الفنية، وقد ظهر ذلك جلياً عند الكثير من الفنانات الإماراتيات مثل: د. نجاة مكي، د. كريمة الشوملي، فاطمة لوتاه، ليلى جمعة، سلمى المري، خلود الجابري، هدى سعيد سيف، منى الخاجة، وغيرهن الكثير.

أسئلة

لعل ما يلفت في موضوع المرأة، كثيمة في التجربة التشكيلية عند المبدعات الإماراتيات، هو تركيزها على البعد الجمالي والقيمي، وكانت هذه التجربة ساطعة في بعدها الدلالي والمعرفي وما تطرحه من أسئلة وما تثيره من جدل فني وثقافي ساعد النقاد والمتابعين على تقديم قراءات مهمة، تستنطق أبعاد هذه التجربة بما تشتمل عليه من سردية بصرية مفعمة بالرؤى والأفكار، سردية تطرح الأسئلة من خلال الصراحة مرة، ومن خلال الرمز مرة أخرى، كما تستلهم أثر المكان والزمان والتراث، وكانت ثيمة المرأة حاضرة لدى هؤلاء المبدعات في صور شتى، ذات صلة بهواجس المرأة المبدعة، ومدى تفاعلها مع مجمل القضايا الاجتماعية والثقافية، في بيئتها أولاً، وأيضاً في ما يحدث في العالم المحيط من تحولات وقضايا ذات بعد كوني وإنساني.

هذه السردية البصرية الممهورة بحساسية فنية ومعرفية، يمكن تلمس أثرها في كثير من التجارب الساحرة والمدهشة محلياً وعربياً، وفي أفقها العالمي أيضاً.

تنوع

المتابع لثيمة المرأة في التجربة الفنية ل د. نجاة مكي يبهره هذا التنوع في الطرح، كما يتوقف كثيراً عند تلك القيم الجمالية التي استلهمت موتيفات وزخارف وألوان التراث الإماراتي، ولعل موضوع المرأة عند د. مكي هو الأكثر غزارة وتكثيفاً من الناحيتين الجمالية والقيمية، فثمة غنى في التفاصيل الظاهرة في مشهد اللوحة، مترافقاً مع ثراء دلالي وثقافي، في تجربة نجحت في إثارة السؤال لجهة ما تبرزه من حوار يقرأ في سياق تعاطيه مع الكوني والإنساني.

قدمت د. مكي تجربة باذخة في سرديتها الشعرية والبصرية، وفي محمولاتها الرمزية والتعبيرية التجريدية، ونقلت المتابع إلى فضاءات طرح السؤال والحوار من خلال لعبة الفن التي تفتح المخيلة على تأويلات الماضي والحاضر والمستقبل.

والمرأة في أعمال د. مكي من حيث الصياغة الفنية، ذات ارتباط وثيق بالبحر والأمواج، كما تبرز بإيحاءات ووجوه مستديرة وغامضة وتحمل شعرية لافتة.

وعرفت د. مكي بأسلوبها المتفرد، حيث تؤثث المشهد في لوحتها بكل ما يلزم من موتيفات ومفردات مستلهمة من الذاكرة الشعبية كل جميل وآسر.

هوية ثقافية

في تجربة أخرى، لا تقل أهمية، يبرز اسم الفنانة خلود الجابري، التي تناولت المرأة كثيمة وصفت بأنها تجربة ثقافية تبحث عن هويتها في سياق ما هو حضاري، وهي قدمت المرأة بمفاعيل وهواجس كثيرة، ومن خلال استثمارها لفضاءات اللون، ومن خلال رمزية تعبيرية، تفتح أفقاً واسعاً للقراءة.

والجابري كما وصفها الناقد الفني محمود شاهين: «كانت المرأة الإماراتيّة خصوصاً، والعربية عموماً هي البطلة المتوجة في أغلبية أعمالها الفنية، بكل ما تحمل من مفاهيم ورؤى وقيم إنسانية وجمالية».

تناولت الجابري المرأة في أعلى قيمة تجسدها، وهي «الأم»، وقد أبرزتها بطريقتين، مباشرة ورمزية، وبصيغ رمزية، كما تناولتها من خلال الأشياء التي تخصها بدءاً من «الصندوق» وهو عنوان أحد معارضها، هذا الصندوق الذي يضم حاجيات المرأة في لحظة ساحرة بالنسبة إليها، هي لحظة العرس، وما يكتنفه من أسرار، فالصندوق الذي يلم الحاجيات، هو مخزن أسرار المرأة، هذه الأسرار التي تعيش بين زمانين وعالمين، وهو محمول تراثي ودلالي، يفيض بغنى الماضي، بما فيه من منازل وأماكن، وما يعمره من فضاءات تراوح بين الدهشة والألفة والرمز.

تفاصيل

في تجربة غنية لتوظيف ثيمة المرأة في التجربة التشكيلية، تبرز الفنانة سلمى المري التي تمتاز أعمالها بخصوصية لونية موظفة بتقنية ملحوظة، وسلمى المري تميل أعمالها نحو التعبيرية التجريدية، كما تحرص على الاعتناء باللون، بما فيه من قوة إيحائية، وهي كذلك كشأن معظم الفنانات الإماراتيات انطلقت من البيئة المحلية، نحو رحلة بصرية فكرية ووجدانية.

ورأى كثير من النقاد أن ثيمة المرأة في أعمال سلمى المري، إنما تنبع من حس وجداني عاطفي، فهي كأم تعي ما تكابده المرأة في رحلتها الغنية بالتفاصيل وفي مدارج الحياة.

كما ترتبط هذه الأم في أعمالها بما سبق وصرحت هي: «مجموعة من أعمالي حملت مسمى «أهازيج وجدانية» كانت الإمارات الأم هي بطلتها، بما فيها من أصالة واحتواء لكل من فيها وعليها من قوميات، والأم بمفهومها السائد تجسدت في مراحل تجربتي، ستجدونها بمختلف أطيافها من إنسان وحيوان ونبات، فالأمومة، تفاصيل غارقة في الذاكرة، استلهمت فيها من تعاقب الأجيال من الجدات والأمهات مروراً للبنات حتى الحفيدات».

طاقة الروح

في تجربة فنية مغايرة، ينظر إلى الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، كواحدة من أبرز التشكيليات الإماراتيات، وهي تسعى لتقديم المرأة في أعمالها بصبغة صوفية فيها الكثير من التأمل والإشراق.

هذه التجربة التي تنتمي للمدرسة التجريدية، اعتمدت في أحد مرتكزاتها على اللون، والضوء الذي يشكل مدخلاً مهماً للفلسفة التي ترتكز عليها مجمل أعمالها، اللون بوصفه يستدعي تلك الطاقة الروحية التي ترسم مجموعة العلاقات ما بين ذاتها كفنانة وأنثى، وما بين اللوحة كجسد وسطح تصويري، يفيض بعوالم لا متناهي، وهي عوالم لا شك متاحة أمام قراءات، وتفسيرات لا حصر لها.

في أحد معارض لوتاه بعنوان «الجوهر 2» طرحت لوتاه موضوع المرأة ضمن عدة عناوين وأفكار مطروحة، بطبيعة الحال كان الرمز مرتكزاً مهماً عند الفنانة لوتاه، خاصة وهي تقرأ المرأة في أحوال عدة، فثمة امرأة حزينة، وأخرى صامتة، وهناك امرأة قوية، وفي كل أحوال المرأة، ثمة دلالات ومضامين يمكن استشفافها من خلال قوة التصوير والإيحاء.

وسبق لفاطمة لوتاه أن وصفت عملها بقولها: «المرأة بالنسبة إلي ليست كياناً يمكن اختصاره في نمط واحد، أو صورة واحدة، إنها متعددة المشاعر، ومتعددة الشخصيات، وقد تعمدت إظهار قوتها وحضورها الطاغي إلى جانب ضعفها وصمتها وحزنها أحياناً».

القناع

في تجربة أكثر رمزية، قدمت الفنانة كريمة الشوملي المرأة من خلال تجربة مغايرة، كان القناع أو البرقع هو عنوانها الرئيسي، والتجربة تنتمي لما يعرف ب «الفن المفاهيمي» الذي شعرت الشوملي بأنه يمنحها قوة أكبر في التعبير والإيحاء.

وظفت الشوملي القناع بوصفه حاملاً لتأويلات كثيرة، فهو كما ترى مخيال خصب بالمفردات التعابير، وهو أيضاً ميدان أنثروبولوجي وتراثي وأسطوري.

والبرقع بالنسبة إلى الشوملي، يرتبط بأشياء كثيرة تخص المرأة الإماراتية، فهو يرتبط بزينتها، وهو أيضاً يعتبر وسيلة لاكتشاف سيكولوجيا النفس البشرية، وقد وظفته في أعمالها في أشكال وألوان مختلفة.

حضرت المرأة كثيمة في كثير من الأعمال الفنية التي صاغتها فنانات إماراتيات، وكانت هذه الاشتغالات ضمن مفاهيم الفن السائدة في تقاطعها مع المدارس العالمية المختلفة، على صلة بهموم وهواجس الإنسان، الذي تشكل المرأة جزءاً لا يتجزأ فيه.

وعي

استطاعت التشكيلية الإماراتية أن تقدم قراءات فنية على درجة عالية من الوعي الفني البصري، هذا الوعي الذي قدم منظوراً ثقافياً ومعرفياً يسجل في رصيد التجربة التشكيلة في الإمارات.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *