التخطي إلى المحتوى



نشر فى :
الأحد 2 أكتوبر 2022 – 8:30 م
| آخر تحديث :
الأحد 2 أكتوبر 2022 – 8:30 م

بقوة السلاح فى أكتوبر (١٩٧٣) عبرت مصر قناة السويس، وكان يفترض أن تعبر أى مشاعر لحقت الهزيمة، لكنها تكرست.
لماذا.. وكيف؟
ما هو متوافر ــ حتى الآن ــ شهادات لقادة عسكريين وسياسيين يروون وقائع كانوا طرفا فيها، يدافعون عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسئولية.
حسب المثل الشائع فإن «الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب».
الشهادات المتوافرة ــ رغم أهمية بعضها ــ لا تؤسس لرواية مصرية موثقة وكاملة للحروب التى خاضتها مصر.
وثائق يونيو مودعة فى خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.
ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصته لجنة برئاسة اللواء «حسن البدرى»، المؤرخ المعتمد للجيش المصرى بعد يونيو مباشرة عن أسباب الهزيمة.
تتوافر آلاف الوثائق عن يونيو وأسرارها غربية وإسرائيلية دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرسمية.
الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عدد معين من السنين لتضع الحقيقة أمام مواطنيها ــ أيا كانت مرارتها ــ حتى لا تتكرر أى أخطاء جرت فى الماضى.
الأمر نفسه نفتقده فى حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر».
هناك شهادات ودراسات نُشرت لكن الوثائق قضية أخرى.
للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة: كيف هزمنا ولماذا؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الهزيمة فى أكتوبر؟ ثم كيف أجهضت نتائجها السياسية؟
هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقى لا يمكن الفكاك منه، أو نفى أسبابه.
بلغة الوثائق يتأسس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلومات صلبة.
بعد «يونيو» جرت مراجعتان على قدر كبير من الأهمية.
الأولى، إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، ومنع دخولها فى غير طبيعة مهامها.
أعيد بناؤها وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التى تُعلى من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة.
وأُسندت مسئوليتها إلى نخبة من العسكريين الأكفاء فى القيادة العامة، كما فى جميع الأسلحة.
تصدر المشهد العسكرى المصرى أفضل ما فى البلد من كفاءات متاحة.
كانت الوطنية المصرية مستعدة أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقى أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.
شاع وقتها شعار «يد تبنى ويد تحمل السلاح».
البناء والحرب معا، القتال والتصحيح فى نفس الوقت.
مثلت الهزيمة تراجعا فادحا فى المشروع القومى، لكنها لم تكن نهاية المطاف.
كانت السنوات التى أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات «جمال عبدالناصر»، بالنظر إلى حجم العطاء الذى بُذل.
أسوأ ما جرى بعدما صمتت المدافع على جبهات القتال أن هناك من حاول أن يصطنع تناقضا بين حربى الاستنزاف وأكتوبر، رغم أن الأولى «بروفة» الثانية.
فى (٦) مايو (١٩٩٦) نشرت صحيفة «الأهرام» مقالا لافتا وقعه خمسة قادة عسكريين كبار تحت عنوان: «تصويبات لمغالطات حول حربى الاستنزاف وأكتوبر».
الموقعون هم: الفريق أول «محمد فوزى»، الفريق «عبدالمنعم واصل»، اللواء «عبدالمنعم خليل»، اللواء طيار دكتور «جبر على جبر»، واللواء «حسن البدرى».
فى مقدمة المقال قال القادة العسكريون الخمسة، وعلى رأسهم الرجل الذى أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر تقريبا وقاد حرب الاستنزاف فى أعقاب هزيمة يونيو:
«قد يخفى على غير المختص معرفة أن أوجب واجبات القيادة العامة للقوات المسلحة مداومة وضع وتطوير الخطط الحربية لمواجهة احتمالات المستقبل القريب، وفقا لمختلف العوامل السياسية والاقتصادية والمعنوية والعسكرية المؤثرة على شكل ومجال وأبعاد الصراعات المسلحة المحتملة».
«إنه بمجرد انتهاء مرحلة الدفاع النشيطة فى فبراير ١٩٦٩ انكبت هيئة عمليات القوات المسلحة على وضع الخطط الهجومية الكفيلة بتحقيق الأهداف المرحلية المنشودة مع مداومة تطويرها طبقا لمختلف العوامل المؤثرة».
بذات الشهادة فإن عمليات حرب الاستنزاف جرت بهدف تجهيز القوات المسلحة لتنفيذ الواجبات المنصوص عليها فى الخطة.
كانت تلك لمحة من حقيقة انتهكت علنا لأسباب سياسية فى مقالات نشرت باسم التأريخ.
ما كان ممكنا نشر ذلك المقال لولا الغضب الذى اعترى قيادة القوات المسلحة فى ذلك الوقت.
السؤال هنا: لماذا لا تنشر الوثائق المحجوبة عن حروب مصر؟
ولماذا لا توضع الحقيقة كاملة أمام الأجيال الجديدة حتى تؤسس نظرتها على قاعدة معلومات صلبة لا دعايات تطلق فى الهواء بالتشهير أو بالتبرير؟
بحساب السنين فإن حرب أكتوبر يمر عليها العام المقبل نصف قرن نشرت خلاله وثائق وروايات إسرائيلية وأمريكية دون أن تتوافر رواية مصرية متماسكة تستند على الوثائق الثابتة.
على مدى سنوات طويلة اختزلت حرب أكتوبر دعائيا فى رجلين: «أنور السادات ــ بطل الحرب والسلام»، ثم «حسنى مبارك ــ بطل الضربة الجوية الأولى».
كان ذلك إجحافا بالقادة العسكريين الذين خططوا ودربوا وقاتلوا، وبعضهم سيرته لامست الأساطير، كما كان إجحافا ببطولات الجنود الذين قدموا من قلب الحياة المصرية وضحوا بحياتهم حتى يرفع البلد رأسه.
فى الفيديو الأخير الذى سجله «مبارك» قبل رحيله بأربعة أشهر أراد أن ينصف دوره فى حرب أكتوبر، ويسجل روايته للأحداث والوقائع التى عاينها من موقعه، وهذا حق مكفول لكل الذين لعبوا أدوارا فى ميادين القتال، أو على مسارح السياسة، حتى يستوفى التاريخ رواياته قبل أن يخضعها للبحث والتقصى والتدقيق وفق المناهج المستقرة.
أشار فى ذلك الفيديو بأكثر من موضع إلى اسم الفريق «سعد الدين الشاذلى»، رئيس أركان القوات المسلحة فى حرب أكتوبر، وهو ما لم يفعله أبدا طوال سنوات حكمه.
تبنى مجددا وجهة نظر «السادات» فى الثغرة دون أن يأتى على ذكر فرية انهيار «الشاذلى».
بالتوظيف السياسى الزائد غاب اسم المشير «أحمد اسماعيل على» الرجل الذى كان يتحمل مسئولية القيادة العامة للقوات المسلحة فى لحظة الحدث الكبير، وتوارت أدوار المشير «محمد عبدالغنى الجمسى» مدير العمليات أثناء الحرب ووزير الدفاع بعدها، والمشير «محمد على فهمى» القائد الأسطورى للدفاع الجوى، والفريق فؤاد ذكرى قائد البحرية وقيادات أخرى لها وزن ودور.
إتاحة الوثائق ورفع خاتم السرية عنها بعد انقضاء عشرات السنين وموت أغلب شهود الحدث الكبير مسألة ضرورية لحفظ سلامة الذاكرة الوطنية حتى لا تضيع المعانى الكبرى للتضحيات التى بذلت.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *