التخطي إلى المحتوى

تُعد قضايا الصحة الإنجابية من أبرز المواضيع التي ناضلت من أجلها الحركة النسوية، خاصة وأنها تعتبر أن وصول النساء إلى خدمات عادلة ومجانية من أبرز الأولويات التي ستساعد النساء في الحصول على حريتهن الجنسية والاقتصادية وتتيح لهن فرصًا متساوية في ميادين العمل والتعليم.

ولهذا السبب أثار قرار المحكمة الدستورية الأمريكية الصادر في حزيران 2022 حول بطلان قانون حق الإجهاض الكثير من الجدل، فلم يعد قرار الإجهاض قانونياً، ولم يعد حق المرأة بإنهاء حملها محميًّا بموجب دستور الولايات المتحدة، وإنما تم تخويل كل ولاية باختيار حكمها الخاص حوله، الأمر الذي استدعى استنفاراً من قبل نشطاء ومنظمات حقوق المرأة في أمريكا وحول العالم على اعتباره انتكاسةً حادةً وتراجعاً عن الإنجازات التي حققها الحراك النسوي عالمياً.

وفي ظل الاستقطاب الحاد الذي تثيره قضايا النساء في دولنا العربية والإسلامية والتيار الذي يريد استيراد التجربة الغربية بحذافيرها، كان من الضروري تتبع كواليس هذا القرار ومعرفة الأسباب الداعية إليه، فمن غير المنطقي أن تتراجع الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم نفسها على أنها “الراعية الأولى للحقوق والحريات في العالم” عن دعمها للنساء وخاصة مع وجود تيار كاسح من الجمعيات والمنظمات والحركات والتجمعات النسوية.

النضال النسوي وقضايا الصحة الإنجابية، عودة للبداية

بدأ الحديث عن ضمان الحرية الجنسية للمرأة منذ الموجة النسوية الثانية التي استمرت بين عامي 1960 ـ 1990 م والتي قدمت طروحات فكرية أنضج وأعمق وأشمل من المطالبة بالمساوة مع الرجال، حيث صاغت نظرياتها الخاصة التي شكلت ملامح الهوية النسوية وتحولاتها الممكنة وعرّفت بأسباب “الاضطهاد التاريخي” الذي تعرضت له النساء خلال العصور السابقة، كما اتسمت هذه الفترة بطفرة في القيم والتصورات، فركزت لضرورة الوصول إلى موانع الحمل وإقرار حق الإجهاض بشكل قانوني تكفله الحكومات وتقوم بحمايته.

وتعتبر مارغريت سانغر النسوية الأولى التي افتتحت عيادة لتحديد النسل في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك نتيجة اعتقادها أن التحكم في حجم الأسرة أمر حاسم لإنهاء دورة فقر المرأة، فدخلت مجال التمريض وانخرطت في العمل النسوي العام، وشاركت في الاحتجاجات العمالية النسائية، واعتقلت أكثر من مرة، ثم قامت بتأسيس الرابطة الأميركية لتحديد النسل، لكنها وفي نفس الوقت دعمت قرار المحكمة العليا بولاية نيوجيرسي الذي يقضي بالتعقيم قسراً للأشخاص الذين يعتبرون “غير لائقين” من السود والمعاقين، دون موافقتهم وأحياناً دون علمهم وضد إرادتهم.

 

أثار قرار المحكمة الدستورية الأمريكية الصادر في حزيران 2022 حول بطلان قانون حق الإجهاض الكثير من الجدل، فلم يعد قرار الإجهاض قانونياً، ولم يعد حق المرأة بإنهاء حملها محميًّا بموجب دستور الولايات المتحدة، وإنما تم تخويل كل ولاية باختيار حكمها الخاص حوله، الأمر الذي استدعى استنفاراً من قبل نشطاء ومنظمات حقوق المرأة في أمريكا وحول العالم على اعتباره انتكاسةً حادةً..

 

استخدمت حبوب منع الحمل بشكل قانوني لأول مرة في الولايات المتحدة في عام 1960، وحققت انتشاراً كبيراً بين جمهور النساء المتزوجات الراغبات في تحديد النسل، ثم سُمح للنساء غير المتزوجات باستخدامها، وبات بإمكان معظم النساء التحكم في قرار الإنجاب بمفردهن وبما يتناسب مع ظروفهن وطموحاتهن، أما الإجهاض فلم يتحول إلى شكله القانوني إلا في سبعينيات القرن الماضي، حيث انتقلت عدوى قوننة الإجهاض من الولايات المتحدة إلى أكثر 50 دولة تفاوتت فيها القيود الموضوعة حوله، وارتفعت معدلات الإجهاض حول العالم لتصل إلى 25% من حالات الحمل في وقتنا الحالي.

قُدمت وسائل منع الحمل منذ الموجة النسوية الثانية على أنها أداة مهمة لتحقيق العدالة الاجتماعية، خاصة وأنها سمحت للنساء والأسرة بالتخطيط للحمل والمحافظة على صحتهن والتقليل من عدد الأفراد والعائلات وما يتطلبه ذلك من نظام الرعاية الصحية التي تتكفل بها الدولة، كما سمحت للنساء ـ وخاصة المراهقات والشابات -باستثمار حياتهن والتخرج من المدرسة الثانوية والالتحاق بالجامعة والتخرج منها دون أن تتعطل حياتهن المهنية أو الدراسية أو العاطفية نتيجة حمل غير مرغوب به، كما قُدمت حبوب منع الحمل على أنها قضية اقتصادية تمس نصف القوى العاملة في البلاد، و تمس حياة 60 % من النساء اللواتي يعتبرن معيلات لأسرهن، إلى جانب كونها وسيلة لتقليص فجوة الأجور بين الجنسين.

أسواق ناشئة وأسواق سوداء

نمت الصناعات الخاصة بالصحة الإنجابية نتيجة الحاجة المتزايدة، وأصبح بعضها من الأسواق الاقتصادية التنافسية التي تدر الكثير من الأرباح، فعلى سبيل المثال قُدر حجم السوق العالمية لعقاقير منع الحمل ب 16.6 مليار دولار أمريكي في عام 2021، حيث من المتوقع أن ينمو هذا السوق ليصل إلى 28.8 مليار دولار بحلول عام 2029، أما سوق الإجهاض فهو يختلف من بلد إلى آخر، إلا أنه من اللافت أن عمليات الإجهاض تحولت لتصبح عمليات مدرة للدخل والأرباح للجمعيات والعيادات التي تقوم بها في بعض الدول.

فعلى سبيل المثال تسيطر عيادات الإجهاض التابعة لمنظمة الأبوة المخططة في أمريكا ” Planned Parenthood Federation of America “على 27.5% من سوق الإجهاض، وتبلغ القيمة السوقية لهذه المنظمة 1 مليار دولار، وقد وصلت إيراداتها المالية الإجمالية بعد 42 عاماً على إنشائها كمزود خدمات إلى 1.2 مليار دولار للسنة المالية 2012، وبلغ صافي الإيرادات الزائدة عن النفقات ما يقارب 87.4 مليون دولار، حيث توزعت وارداتها بين 17% على شكل هبات ومساعدات، 26% من هذه الواردات تولدها عمليات العيادة، 57% يأتي من خدمات الإجهاض.

وقد كشفت بعض التقارير الاستقصائية كواليس السوق الاقتصادي الأسود الذي وفرته عمليات الإجهاض القانونية، حيث ساهم توفر الأجنة المجهضة بتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال إنشاء سوق واسع ومربح لأنسجة الجنين الذي تم إجهاضه اختيارياً، وهو ما ساهم في نمو سوق صناعة الأدوية بشكل عام وسوق صناعة مستحضرات التجميل بشكل خاص، وهي أسواق لم يكن من الممكن أن تتطور دون وجود بنية إجهاض قانونية ومحمية. 

وتتذرع شركات الأدوية والبحث بأن الأنسجة الجنينية تستخدم بشكل رئيسي في تطوير اللقاحات البكتيرية والفيروسية ومكونات الدم والأنسجة والمواد المسببة للحساسية والخلايا الجسدية والبروتينات العلاجية، إلا أن الأدلة تشير إلى أنها تستخدم بشكل أكبر في صناعة مستحضرات التجميل  والمستحضرات المضادة للشيخوخة وذلك لقدرة هذه الخلايا على تطوير أنسجة الجلد والتخفيف من علامات الشيخوخة والتجاعيد، حيث تحتوي أنسجة الجنين على عدد كبير من الخلايا غير الناضجة شديدة التكاثر،ذات القدرة العالية على التكيف.

وقد وصلت كلفة جلسة العلاج الواحدة والقائمة على حقن أنسجة جنينية سائلة إلى 25 ألف دولار، وتساعد هذه الجلسات في إنعاش البشرة وتحسين المظهر ونوعية الحياة والرغبة الجنسية، وتوجد حول العالم العديد من العيادات القانونية وغير القانونية التي تقدم مثل هذه الخدمات وتستورد هذه الأنسجة من هذا السوق المحمي بغطاء علمي بحثي. 

وتشير بعض الأدلة إلى أن عيادات الأبوة المخططة شاركت أيضاً ب 33 تجربة سريرية، ثلثها أجري على مراهقين تراوحت أعمارهم بين 13-18 سنة، حيث ركزت هذه التجارب على تحديد النسل ووسائل منع الحمل الطارئة وبعض تقنيات الإجهاض الطبي لاسيما الإجهاض الدوائي، ورغم ادعاء هذه العيادات بأنها شاركت من منطلق دعمها للبحث والصناعة الدوائية، إلا أنه من غير المعروف ما إذا تقاضت أرباح عن مشاركاتها في التجارب السريرية.

كما وجهت اتهامات إلى أن بعض هذه العيادات بأنها قامت عن طريق وسطاء بدفع ما يقارب 200-300 دولار كراتب لنساء أوكرانيات على مدى ثلاثة أشهر من أجل أن ينقلن حملهن إلى مرحلة متأخرة جداً، ثم يضعن الأطفال أحياء في نوع من الولادة المبكرة القسرية، وبما يسمح الإجراء بحصاد أعضاء الطفل الحي وهي لا تزال طازجة قدر الإمكان. وذلك في محاولة للتحايل على القوانين التي تضع قيود بالغة على عمليات الإجهاض المتأخر في العديد من الدول.

قوانين لدعم العدالة أم لإثراء الجيوب على أجساد النساء

تحولت قضايا الصحة الإنجابية إلى قضايا سياسية تربعت على قائمة البرامج الانتخابية، حاولت فيها الأطراف السياسية استمالة النساء والنشطاء الحقوقيين من خلال مناصرة بعض القضاياالاجتماعية الحاضرة واستغلال الرأي العام واهتماماته للوصول إلى مراكز سلطة.

ورغم تزايد الأصوات الأمريكية التي دعمت إلغاء قانون حق الإجهاض مؤخراً، إلا أن هذه الأصوات كانت محدودة وضعيفة لم ترق لدرجة الضغط على صناع السياسات، رغم شعاراتها المطالبة بتوسيع مفهوم تساوي الحقوق بين الجميع – بما في ذلك الأجنة “الذين لم يولدوا بعد”، والدفاع عن حق الجميع في الحياة في طورها الكامل “من الرحم إلى القبر”، حيث تشير العديد من التحليلات أن إقرار قانون إلغاء حق الإجهاض لم يأت بهدف حماية النساء وإنما جاء لأهداف سياسية ، فرغم صدور العديد من التقارير والتحذيرات قبل سنوات حول كواليس سوق الإجهاض وتسليع الأجنة لم يتحرك أحد لإيقافه، بل جاء إلغاء هذا القانون مؤخراً كمحاولة سياسية من الحزب الجمهوري لتوحيد صفوفه ضد الديموقراطيين من خلال استهداف اليمين المسيحي. 

لقد نما سوق الإجهاض تحت سمع الحكومات وتحت ذريعة حماية النساء واحترام خياراتهن، وتحول إلى تجارة مظلمة لا تنضبط بمعايير أخلاقية يتم الطلب عليها من المؤسسات الحكومية والتعليمية والتجارية بحجة المشاركة في البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الحيوية والأدوية، لكن أرباحه صبت في جيوب القائمين على صناعة مستحضرات التجميل بالدرجة الأولى.

ومن جهة أخرى لم يكترث أحد لكون الإجهاض يعتبر القاتل الأول في مجتمع السود، ولو بلغت معدلات وفيات النساء السوداوات ثلاثة أضعاف معدلاته عند النساء البيضاوات لأسباب مرتبطة بالحمل، إلى جانب كون النساء السود يشكلن ما يقرب من 40 %من اللواتي يجرين عمليات إجهاض في أمريكا، وتركت هذه الفئة تواجه هذا الخطر وسط تجاهل وعدم اكتراث.

وهنا لابد علينا كنساء التوقف وإثارة المزيد من الأسئلة الأخلاقية، حول ما إذا كانت القوانين التي سنت لحماية النساء انطلقت من دوافع حقيقية، أم أنها انطلقت لدوافع سياسية استخدمت مطالب اجتماعية وركبت الموجة للحصول على مكاسب مرحلية، ثم انقلبت عليها لاحقاً لتحقيق مكاسب سياسية أخرى.

وهل تم استغلال طموح النساء ورغبتهن في تحقيق الاستقلالية والمساواة بشكل غير مباشر؟

ما هي أدوار الأسواق الاقتصادية النامية التي استغلت احتياجات المرأة، واستخدمتها كسلعة استفادت منها في تحقيق المزيد من الأرباح، وفي صياغة القرارات والسياسات العامة؟

وهل ساهمت أرباح أسواق حبوب منع الحمل وأسواق الإجهاض ـ على افتراض نيتها في تطوير العقاقير ـ في دعم مطالب النساء وصحتهن لاسيما الفئات الفقيرة والمهمشة، أم أنها تحولت تحت ستار العلم والتطوير لمسالخ يتحول الإنسان فيها إلى سلعة أو مادة أولية لصناعات أخرى؟

لقد قُدمت مواضيع الصحة الإنجابية بشكل براق، وركزت على جانب واحد دعم قرارات المرأة وحقوقها وأغفل في نفس الوقت حقوق الجنين وجعل قرار حياته في يد فرد واحد تتلاعب فيه الظروف دون حماية، كما تم استثمار واستغلال قضايا النساء في الدول الصناعية المتقدمة أو في الدول المتخلفة على حد سواءلتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، وهو ما يحتاج منا وقفاتشجاعة لتقييم “المنجزات” التي أوهمت النساء بتحصيلها بشكل دقيق وحيادي بعيداً عن العواطف وعن الشعارات النضالية ، فالتجربة تؤكد أن ما تم تحقيقه قد دعم النساء من جانب وكبلهن من جوانب أخرى، بل تلاعب بهن وباحتياجاتهن لأغراض سياسية، وأن هذا التلاعب يمكن أن يتكرر بوجوه مختلفة لتحصيل فوائد قد تكون النساء ضحاياها وأبعد ما يمكن عن فوائدها.

المراجع

نسوية تؤيد التعقيم القسري.. مارغريت سانغر صاحبة أول عيادة لتنظيم النسل، موقع الجزيرة نت ، تاريخ النشر 8/9/2021.

كيف “أنجبت” حبوب منع الحمل ثورة اقتصادية ، موقع BBCبالعربي، 2017

الإجهاض: لماذا تقف فئة من الشباب الأمريكي ضده وتعتبر منعه معركتها؟ موقع BBCبالعربي، 2022

Commercial Markets Created by Abortion: Profiting from the Fetal Distribution Chain, Victoria Evans, 2013.

CommerCial markets Created by abortion, A Commentary of The National Catholic Bioethics Center on Health Care and the Life Sciences, 2010

The global contraceptive drugs market size, FortuneBusiness insights,2021

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *