التخطي إلى المحتوى

ربما كانت القصيدة الأكثر إثارة للجدل في وسائل التواصل، هي تلك القصيدة التي كتبها شاعر شباب عكاظ حيدر العبدالله «حيوان المعدن»، وقرأها في جمع من النقاد والأدباء في ضيافة موسوعة «أدب» في الطائف. القصيدة التي هلّل لها الحاضرون وصفقوا بمَنْ فيهم النقاد الذين كتبوا عن القصيدة، فيما بعد، مادحين ومستدركين، نعتها أحد المتابعين في «تويتر» بـ «الفالصو»، وعاتب النقاد والأدباء الذين صفقوا لها وأعجبوا بها، متسائلاً: أليس في الحاضرين رجل رشيد يقول للشاعر: هذا الشعر «فالصو»؟!

التصفيق إعجاب وليس حكماً نقدياً

هذا النعت على ما يبدو أشعل في نفوس بعض الحاضرين الحميّة الأدبية، وتداعت حالة النقد، فكتب الناقد المعروف الدكتور سعيد السريحي (الذي كان واحداً من الحاضرين الذين صفقوا للقصيدة والشاعر) سلسلة من التغريدات، ذكر فيها أنه يحترم حرية الشاعر في التجريب، وحرية المتلقي في تقبّل هذا التجريب أو رفضه، وأنّه لا خلاف حول شعرية اليومي والمعتاد، وإنما الخلاف في مدى قدرة الشاعر على انتزاعها من سياق اليومي والمعتاد والكشف عما هو شعري خفي فيها، ولذلك فإنّ الاحتكام إلى قاعدة عامة تتمثل في «شعرنة» الأشياء الصغيرة لا يمكن أن ينتج إلا حكماً عاماً تندرج تحته كل القصائد ثم لا يضيف إلى أي واحدة من تلك القصائد شيئاً.

السريحي ذكر في تغريداته أنّ الحكم على القصيدة ليس حكماً على تجربة الشاعر حيدر العبدالله على الرغم من أهميتها، لأنّ كل قصيدة من القصائد هي تجربة في حد ذاتها وينبغي النظر إليها على أنها كذلك، لا تشفع لما هو أدنى منها ولا يشفع لها ما هو أعلى منها.

وأكد السريحي في تغريداته أنّ ‏الحكم على قصيدة حيدر يقتضي وضعها في السياق الذي ألقاها فيه، وإذا كان لكل مقام مقال فإن لكل قصيدة مقاماً كذلك، وقد كنت ممن حضروا مجلس إلقائها وكنت ممن طرب لها وصفق له، غير أن الطرب والتصفيق لا يمكن اعتباره حكماً نقدياً، وإنما إعجاب بحسن اختياره لما قرأه من شعره.

السريحي برّر إعجابه المبدئي بالقصيدة بقوله: لم يلقِ حيدر قصيدته من على منبر ثقافي، ألقاها بين جمع من الأصدقاء، ألقاها في المسافة الفاصلة بين رقصة المجرور وصحون السليق الطائفي، وهي مسافة لا تحتمل من الشعر غير ما يتميز بالطرافة وقد كانت قصيدة حيدر نموذجاً لهذا الشعر الذي يتناسب مع مجالس السّمر، وهي قصيدة تنسب إلى «الإخوانيات» التي يتباسط فيها الشاعر مع محبيه وأصدقائه، ولا تزيد عن ذلك.

شعريّة أوسع من اللغة

الناقد والأكاديمي حاتم الزهراني اختزل رأيه في القصيدة على أنها مساءلة بديعة تتأسس فنيتها على زاوية النظر الشعرية؛ فالشيء المخترع مادة خام معدنية يحولها الارتباط بالإنساني إلى حالة مفعمة بالحياة، ‏وعبر الرؤية المقارنة باستحضار الناقة، أيقونة الحياة في التقليد الشعري العربي، يدخل النص الاختراع المعاصر في استمرارية ثقافية ممتدة، وأكد أنّ ‏الشعرية أوسع من اللغة.

قصيدة مشاكسة

الكاتب والأكاديمي عادل خميّس حاول التوسّط بين الرأيين، إذ أشار إلى أنّ القصيدة مشاكسة من مشاكسات حيدر العبدالله التي تجيء مؤخراً على شكل اقتناص لثيمٍ غير مألوفة. يمكن أن نسميها «أنسنة الأشياء» من حولنا. وأضاف: هذا النص يدخل ضمن هذا السياق، فمنظور النص له بعد إنسانوي كما نرى، ينظر للعلاقة مع الشيء (السيارة) نظرة تتجاوز النظرة الإنسانوية الضيقة، التي ترى في الأشياء مجرد أدوات لخدمة الإنسان ورفاهه. السيارة هنا صديق ورفيق درب، لكنه لم ينفِ «التقريرية والمباشرة» التي قال إنها تؤثر على شعرية النص، قبل أن يستدرك أنّ النصّ عوض عن ذلك بتوظيف بعد آخر من أبعاد الشعرية، يتلخص في استثمار الثيمة (العلاقة مع الأشياء) استثماراً متجاوزاً للمعتاد.

الدكتور خميّس أشار إلى محورين اعتمد عليهما النص، المقارنة بين السيارة والناقة، إذ تلبّست السيارة وظيفة الكائن الحي (المهم) في سياق الجزيرة العربية، وفي هذا التردد بينهما وظفت الأسئلة، وبعض الاستعارات الجميلة، ومحور أنسنة السيارة، بتحويلها إلى صديق (تحفظ السر، تتحمل النزق، تمضي الوقت الطويل، تلتصق بصاحبها وتنتظره في الظروف الصعبة، وتستحيل أنثى متسامحة وصبورة، أنثى نادرة، يكون الوفاء معها معياراً للحكم على الإنسان ذاته، بأنه أهل أو ليس أهلاً للثقة.

الإخوانيات شيء آخر

الناقد والأكاديمي سعد البازعي أنكر على الناقد سعيد السريحي أن تكون قصيدة حيدر عبدالله عن السيارة والجمل من الإخوانيات؛ لأنّ الإخوانيات (كما قال) حوار بين أشخاص في موضوعات شخصية أو أقرب إلى الشخصي منها إلى العام، في حين أن قصيدة حيدر تمس العلاقة الإنسانية بالآلة، أي تؤنسن الآلة، الأنسنة التي أحجم الكثير من شعرائنا عن استكشافها.

وأكد البازعي أنّ كثيراً من قصائد الحداثة في الثمانينات ألقيت في جلسات إخوانية أي جلسات أصدقاء ولم يجعلها ذلك إخوانية. وأضاف: لا شك أنّ عنصر المسامرة حاضر في تلك الحالات جميعاً، لكن الإخوانيات شيء آخر: موضوعات تغلب عليها الطرافة والحميمية الشخصية أو الخصوصية وليس من ذلك شيء في ما ألقى حيدر. مؤكداً التناول الشعري المميز للموضوع، وفي قصيدة حيدر ليست المسألة الناقة أو السيارة وإنما هي العلاقة الإنسانية بالآلة. وأضاف في ردّه على السريحي: إنّ له بعض المعرفة بما يرتفع بالنص عن المفاضلات الساذجة. مشيراً على السريحي بأهميّة قراءة توظيف وليم كارلوس وليمز للعربة أو سيارة الإطفاء ليرى ما أشار إليه!

السريحي ردّ على البازعي بقوله: أنا أعرف أنّ لديك كل المعرفة وليس بعض المعرفة بما يرتقي بالنص عن المقارنات، أما أنا فلدي قلّيل من المعرفة لا يسمح لي أن أستدعي تراثاً عالمياً في هذا المقام لتعزيز شعرية الأشياء الصغيرة؛ لذا أتوقف عند نص حيدر فقط.

لينهي البازعي هذا الجدل بقوله: أما أنا فأقرأ الشعر متصلاً بعضه ببعض.

حيوان المعدن

أوَليستْ أبواقُ السياراتِ على الطرقِ

صدًى لرُغاءِ الإبلِ على الموردِ؟

قافلةٌ من حيواناتِ المعدِنِ

ترتشفُ الأسفلتَ وتلعقُ أعمدةَ النور ضُحًى

وكأنّ السياراتِ قطيعُ جِمالٍ شبقهْ

الخُفُّ المطاطيُّ الأسودُ يطْوي الأرضَ

مخيِّلةُ العربيِّ تدورُ

هل السيارةُ والناقةُ سِيّانِ أخيرًا؟

أمَطايا الفولاذِ المكسُوّةُ بغضاريفِ الليفِ

ولحْمِ الألمنيومِ تلكَ

رواحلُنا أيضًا؟

سُبحانَ الله!

أيمكنُهُنّ الرفقُ بنا كرؤُومٍ العِيسِ؟

أيمكنُهُنّ الشوقُ إلينا؟

والحزنُ علينا؟

والشفقهْ؟

أوَتَعرفُ صاحبها السيارةُ

كابْن لَبونٍ يعرفُ راعيَهُ؟

أتهِشُّ لمقْدَمهِ؟

أتُميّزُ عن بُعد ثلاثةِ أميالٍ أو أربعةٍ

عرَقَهْ؟

لا شكَّ الإبِلُ العربيةُ لا تتكرّرُ

هل أجرؤُ إلا أن أزعم ذلكَ؟

لكنّ السيارات كذلكَ

للأسفار معارجُ

للظعْن هوادجُ

من يحفظُ سرّكَ كالسيارةِ؟

من يتحمّلُ وِزْرَكَ؟

نهْيَكَ؟ أمْرَكَ؟

فورةَ أعصابكَ

وحساسيَّتكَ النزقهْ؟

معَ منْ تُمضي أطولَ ساعاتِكَ؟

من يتفهَّمُ علّاتِكَ؟

حُرقةَ آهاتِكَ، كالسيارةِ؟

من يلتصقُ بظهركَ في السرّاءِ وفي الضرّاءِ

كما هي مُلتصقهْ؟

تنتظرُ بصبْرٍ تحتَ سياطِ الشمسِ

وفي الجوِّ الرطْبِ

وفي العجِّ وفي المطرِ مجيئَكَ

لا مُتعكّرةَ البالِ

ولا فَرِقَهْ

تتأخّرُ عنها.. تصفَحُ

لا تأتيها.. لا تعتِبُ

لا يُمكن أن تغفرَ أنثى غيرُ السيارةِ

للرجلِ الغارق عنها في لُججِ الدنيا

غرَقَهْ

حيِّ ذلولَكَ كلَّ صباحٍ

دعْها تتنفّسُ عطرَكَ

كُنْ حاديَها الرومنسيّ وقبّلْ مقْوَدَها

أغمضْ عينيكَ عليها

إغْماضَ الجفنينِ على الحدَقَهْ

صُنْ سيّارتَكَ البكْرَ

أنِخْها في مرْبَطها بحنانٍ

أشعرْها بالحبّ

بنشوةِ راقصةِ الباليهِ بُعيدَ العرْضِ

ومسّحْ باليدِ والنظْرةِ مُنحنياتِ أُنوثتِها

دلّلْها

خُذْها لطلاءِ أظافرِها يومًا

واستبدلْ شمعتَها المحترقهْ

لكنْ إياك وأنْ تستبدلَها هيَ

– حتى يتوفّاها الله –

ولا تأمنْ للرجلِ يُغيّرُ كلَّ ثلاثِ سنينَ مطيّتهُ

من يتخلّى عن أوفى الأشياءِ إليهِ

غدًا يتخلّى عنكَ

وثقْ بي:

إنّ الرجلَ المتقلّبَ في أحضانِ السياراتِ

غريرُ القلبِ

وليس ثقهْ

شعر حيدر العبدالله

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *