ترجمة واعداد: نبيل شحادة*
كان «جوزيف فرانسوا ميشود» المولود في عام 1767, مؤرخًا وشاعراً وصحافياً فرنسياً مؤيداً للملكية, وعندما قامت الثورة الفرنسية في عام 1789, عُرف عنه عداؤه لها, ولشعاراتها وأهدافها.
سافر «ميشود» في العام 1830 الى شرق البحر المتوسط للتعرّف مباشرة على الأراضي الفلسطينية المقدسة والبلاد المحيطة بها, والتعمق في أسباب ونتائج الحروب الصليبية في المساحة الجغرافية التي كانت مسرحا لها. و هي رحلة ظهرت تفاصيلها وأحداثها في كتاب «مراسلات الشرق» الذي كان مُقرراً له أن يكون تقريراً كاملاً عن الرحلة؛ ولكن حالة «ميشود» الصحية وظروف أخرى وصفها بالمؤسفة, لم تسمح له بالقيام بمثل هذا العمل, فاكتفى بجمع كل الرسائل التي كتبها إلى أصدقائه, وراجعها بعناية كبيرة, ثم نشرها في سبعة مجلدات صدرت بين عامي 1833 و1835, حَوَت بين دفّاتها تنوّع مشاهداته وصراع انطباعاته والمفاجآت التي عايشها. وقد اخترنا أن نقرأ من صفحاتها الكثيرة, ما أختصّ ببيروت ودار حولها.
وصل «ميشود» الى بيروت في التاسع من شهر أيار من عام 1831, ونزل في فندق أوروبي قال عنه انّه سيئ ولم يشعر براحة فيه, الى أن زار القنصل الفرنسي هنري غيز(1), الذي استقبله «بأدب شديد ولطف خاص أثّر بي كثيراً ؛ وعرض عليّ السكن عنده في القنصلية فقبلت, ولا سيما أنني لم ارتح في الفندق الذي نزلت به».
قدّمت القنصلية له غرفة كبيرة ومريحة, وتطل على البحر, حيث أسوار المدينة التي أعاد بناءها وتدعيمها أحمد باشا الجزار من الحجارة الأثرية التي خلّفها زلزال 511 ميلادية, وجعلها الجزار عصيّة على الغرباء, ومنهم سكان الجبل, فيقول «والآن, مداخل بيروت مغلقة أمام أمراء جبل لبنان. وعندما يريدون زيارة المدينة, يكون ذلك بعد الحصول على إذن خاص». أما عن وضعها الأمني فيقول أن «قوة تركية تراقب الساحل وتحركات المسيحيين و الدروز في جبل لبنان وتتعامل معهم بحذر شديد»(2).
التجارة وأهمية ميناء بيروت
يعرب «ميشود» المتعصب لوطنيته الفرنسية والمتأثر حتى النخاع بأمجاد الملكية الفرنسية البائدة(3), عن استيائه من تراجع الدور التجاري الفرنسي في ذلك الوقت في شرق المتوسط, وقلّة التجار الفرنسيين في بيروت وسقوط هيمنتهم على الأسواق, فيقول: «لم نجد عدداً كبيراً من تجار أمتنا كما رأينا في القرن الماضي؛ لدينا هنا في بيروت مؤسستان فقط. كانت التجارة الفرنسية في بلاد الشام في السابق أحد أمجادنا. الآن بعد أن غفلت عين حكومتنا عن هذه المناطق, سيتعيّن علينا التنازل عن كل الازدهار, وكل الهيمنة التجارية» حيث كانت السفن التجارية الأوروبية المختلفة لا تستطيع أن تعمل بالتجارة في بحار سوريا إلا تحت علم فرنسا أو بإذن من حكومتها كما يزعم, مبديا حزنه لأنه يرى الآن أعلاماً أجنبية كثيرة الى جانب علم بلاده.
ويتوسع «ميشود» أكثر ليذكر بالدور التجاري العظيم لبيروت, فيقول انه منذ عشر سنوات أي ابتداءً من عام 1821, تقريباً, «أصبحت بيروت أهم مكان على الساحل, وهي المدخل الرئيسي لدمشق. وهي مستودع جميع البضائع, ومركز جميع نشاطات الحركة التجارية في سوريا. وجميع السفن, حتى الحربية منها، ترسو بأمان بالقرب من بيروت. أما ميناء المدينة فيستقبل المراكب العربية فقط, وتوفّر الأعمدة الغرانيتية الصغيرة المنتشرة على شاطئه مربطاً سهلا للبحارة لربط قواربهم».
القناصل
لا يغيب عن بال «ميشود» أن يخبرنا عن وجود عدة قناصل أوروبيين في بيروت, ومنهم الفرنسي, والإنجليزي, ونائب قنصل للنمسا. ولجزيرة سردينيا(4) أيضا قنصلها الذي بدلاً من ذهابه يوم الأحد الى الكنيسة للصلاة مع الآخرين, ولأسباب تتعلق بصعوبة جلوسه في الصف الأول لأنه مقعد شرف ومحجوز للقنصل الفرنسي بصفته «حامي» جميع المؤسسات الكاثوليكية في بلاد الشام(5), قرّر أن يقيم القداس في منزله, واستخدم لذلك جرسا صغيراً من النوع المستعمل في تحديد أوقات الطعام, خوفا من إغضاب جيرانه المسلمين. و هنا, لا يستطيع «ميشود» أن يكبح جماح قلمه وتطرفه, فيقول: «سمعت أكثر من مرة أن الأتراك -يقصد المسلمين- يشتمون صوت الجرس البرونزي».
وصف المدينة
يعرّج «ميشود» للكلام عن سكان بيروت وتنوّع أديانهم فيقول: «يبلغ عدد سكان المدينة من موارنة وروم الكاثوليك وعرب مسلمين أكثر من تسعة آلاف نسمة، بمن فيهم سكان الريف الذين يعتمدون في مصالحهم على بيروت».
ثم يتابع: «لم أرَ شيئاً غريباً, وعراً, وغير منتظم مثل أبنية مدينة بيروت العربية. المنازل فيها بُنيت من الحجر وبارتفاع أعلى من أي بلدة أخرى في سوريا. الأقبية والمخارج السرية والممرات المظلمة والشوارع الضيقة والمتعرجة توحي في البدء بنوع من الرهبة لدى المسافر الذي يريد اجتياز المدينة, حيث يبدو كل بيت مثل زنزانة كبيرة يصعب الوصول إليها. ويمكننا القول أيضاً أن كل بيت هنا يظهر وكأنه حصن منيع, ومن الواضح بما فيه الكفاية أن بناة المدينة كانوا من الرجال المحاربين الذين أرادوا جعل بيروت قلعة ضخمة».
إضافة الى أبنية وبيوت بيروت, يقدّم لنا «ميشود» مشهدا من شوارعها, وعن صناعة كانت مزدهرة وكان لها شأن مهم وهي دبغ الجلود التي كان يُصدّر بعضها الى أوروبا كما ذكرت بعض المصادر, فيقول: «المدينة التي أكتب إليكم منها تسبب ازعاجاً يمكن أن يكون قاتلاً للمشاة في معظم شوارعها. وهنا لدينا طريقة خاصة جدا لدباغة جلود الحيوانات, حيث يتم نشر عدد كبير منها على الأرصفة, و هي أصلاً سيئة للغاية, وأقيمت على أرض غير مستوية؛ فالرجال والجمال والخيول والبغال والحمير الذين يمّرون لا يسعهم إلا أن يطؤوا هذه الجلود التي تغطي كامل الطريق. وقلّة الحيطة أحيانًا تؤدي الى أن ينزلق الناس بسببها ويسقطون أرضا».
وعن الأسواق وبضائعها, يقول: «ميشود» ان «المؤن كثيرة في البازارات, لكن معظمها يأتي من الخارج, ولن تجد مدينة على الساحل أرخص من بيروت. يكفي إلقاء نظرة على الحقول المجاورة, فهي كلها مغطاة بأشجار التوت الجميلة». هكذا علم «ميشود» ان صناعة الحرير «تشكّل التجارة الرئيسية لهذه المدينة» فهذه الأشجار, شكّلت, إضافة الى ثمارها الحلوة اللذيذة, عماد صناعة الحرير التي ساهم في ازدهارها أيضاً المناخ المعتدل المناسب لتربية دود القزّ في بيروت وضواحيها, وهي صناعة كانت منتشرة بكثرة, ويعيش منها مئات العائلات. كما ذكر مشهداً آخراً للدلالة على زخم الحركة التجارية في بيروت, وهو مغادرة «قافلة كبيرة محمّلة بالبضائع إلى دمشق مرتين في الأسبوع».
يلاحظ «ميشود» ان اللغة العربية التي يتحدث بها الناس في بيروت مشوّهة أكثر من أي مكان آخر, ولا تشبه إلى حد ما لغة القرآن الكريم النبيلة والمتناغمة, ثم لا ينسى أن يلفّق ما يتهم به مسلمي المدينة بأنهم «متعصبون متشددون», وبحكم تعاملهم مع الأجانب في السنوات الأخيرة, أصبحوا «أكثر مرونة و إنسانية»!
ولأن بيروت حاضرة تاريخيا منذ حوالي ثلاث آلاف سنة, فلم يفت «ميشود» أن يذكّرنا بما رآه الكثير من زوارها من رحالة وسواح أجانب من «بقايا أثرية كافية تنتشر داخل محيط بيروت, بحيث يغيب أي شك في أن المدينة الحديثة تحتل على الأقل جزءاً من موقع بيريتوس(6)؛ ومع ذلك، نجد إلى الغرب من المدينة العربية معظم بقايا المدينة القديمة, حيث رأينا خزان ماء, وبقايا قناة, وحمامات قديمة؛ وباتجاه البحر, يوجد مَعلَم نصف دائري ربما كان مسرح أغريبا(7). أعتقد أن هناك بعض الآثار العظيمة المخبأة تحت الرمال إلى الغرب والجنوب الغربي من المدينة الحديثة».
الرحيل إلى دمشق
استعد «جوزيف فرانسوا ميشود» للانتقال من بيروت الى دمشق لاستكمال مهمته للغوص في تفاصيل الحروب الصليبية كما ذكرنا, ولكنه بسبب استماعه لأخبار عن خطورة السفر في بلاد الشرق والدخول الى دمشق بهيئة أوروبية, قرّر التنكر بزيّ محلي يقلل من احتمالات تورطه في حوادث غير متوقعة, فعمد الى شراء ثياب إسلامية من بيروت: «حلّت قلنسوة بيضاء محل القبعة العادية على رأسي. أما بقيّة الزي فيتكون من سترة عريضة من القماش الأحمر وبنطلون أبيض واسع على الطراز العربي, وحزام مزيّن بخطوط من الصوف الأبيض والرمادي, وانحشرت قدمي في داخل حذاء أحمر مما اعتاد فرسان البلد على انتعاله».
لم يكتفِ «ميشود» بتغيير ثيابه, وإنما لجأ أيضاً الى حلّاق بيروتي ليجعل شعره «منسجما مع التسريحات التركية» السائدة في ذلك الزمن؛ فسلّمه رأسه مستسلما لمقصّه, فيما انتابته مشاعر الانزعاج والألم من خسارة هيئته التي اعتاد عليها, معبّراً عن سخطه على الدمشقيين وتعصبهم «الذي أجبرني على مثل هذا التنكر».
ثم يعود الى الحلاق «المسلم» مجدداً, فيتخيّله بأنه «في قرارة نفسه كان فرحاً بإذلال شخص غير مسلم من بلاد الفرنجة بهذه الطريقة, وإجباري على الانحناء ليديه, وأيضا الى أمره الذي تكرر مرات كثيرة: احني رأسك».
وهكذا تحوّل «ميشود» الى فارس عربي بعد أن أضاف الى زيّه مسدسين كبيرين, علقهما بحزام جلدي, وأصبح مستعدا للسفر, فترك أمتعته الكثيرة في القنصلية الفرنسية, واكتفى بأخذ بعض الكتب التي لا غنى عنها, والضروريات الأساسية, والقليل من الأغراض, بغية السفر «بحريّة أكبر, وبأمان أكبر» كما قال.
ينطلق لاحقا «ميشود» مع واحدة من قافلتين تغادران بيروت أسبوعيا الى دمشق, في رحلة تستغرق ثلاثين ساعة. غادر بيروت في منتصف النهار, وما أن وصل الى المرتفعات الجبلية, التفت ناحية الغرب: «مشهد بيروت وأراضيها جميل من مرتفعات جبل لبنان. الى الجنوب غابة الزيتون. وبالقرب من المدينة, غابة الصنوبر, وأيضا المساحة الشاسعة التي يملأها أشجار التوت والنخيل. أما الساحل فيبدو برماله الحمراء. وفي الأفق تظهر بيروت وبحرها الهائل, وكل ذلك في سلسلة متوالية من الصور المحببة, في ظلال وألوان لا حصر لها».
* باحث في التاريخ/ جمعية تراث بيروت
1) ديبلوماسي فرنسي, عُيِّن قنصلاً في لبنان في الفترة 1808-1828م، كما تولّى قنصلية حلب في سوريا في الفترة 1838-1847.
2) كانت بيروت في هذه المرحلة تحت سلطة إبراهيم باشا, المكلف من والده محمد علي باشا المصري بإدارة بلاد الشام.
3) كان سقوط الملكية في فرنسا رسميا مع إعلان الجمهورية بشكل رسمي في 21 أيلول 1792.
4) كانت سردينيا مع مجموعة من مناطق البر الإيطالي مملكة مستقلة, وعاصمتها السياسية والاقتصادية كانت تورينو.
5) ترسخت الحماية الفرنسية للموارنة والكاثوليك في لبنان بتعهد من الملك لويس الرابع عشر في عام 1649.
6) مدينة رومانية كانت تقع في موقع مدينة بيروت الحالية.
7) قائد عسكري وسياسي روماني (63 ق.م – 12 ق.م), اشتهر بإخماده لعدة ثورات، وإنشاؤه لعدد من المستعمرات وحكم مناطق واسعة من الامبرطورية.
التعليقات