التخطي إلى المحتوى

فؤاد بو غادر

كأنّه أمس! ها هي السنة الثالثة على ذكرى انتفاضة 17 تشرين. كان مساء الخميس حين امتلأت الساحات، وانشغلت القنوات الإخبارية بالتغطية المباشرة. اعتقدت الأغلبية أنها مجرّد تحركات سطحية ستنتهي مع بداية صباح الجمعة، إلا أنها استمرّت لأسابيع وبالزخم نفسه. آمن كثر بما شهدته الساحات، و”كلن يعني كلن” وحّدت أغلبية الشعب من ساحة الشهداء حتى النور في طرابلس.

 

جمهور الأحزاب لم يتمكن من مقاومة المشهد. نزلوا إلى الساحات، ونسوا من أين أتوا، ومن “يقدّسون” من زعماء، ولمن صوّتوا في انتخابات العام 2018. وقعت الأحزاب السياسية في ورطة فعلية، فقرّر البعض “ركوب الموجة” والبعض الآخر خوّن المنتفضين؛ وتهمة “ثورة السفارات” لا تزال تلاحق من آمن بها. لا شكّ في أنّ الأزمة الاقتصادية وكورونا أثّرا على استمرار شعلة 17 تشرين، إلّا أنها فعلياً أخفقت وشكّلت خيبة للبعض في مكانٍ ما.

 

الخيبة نفسها شهدناها عندما عاد الكثير ممن شاركوا في التحرّكات إلى أحزابهم التقليديّة، ليثور كلٍّ منهم “على ليلاه”. أظهرت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة محدوديّة المقاعد التي استحوذ عليها التغييريون، و”الخرق” لم يكن كافياً لفرض أيّ تغيير يُذكَر حتى الآن. منهم من لم يؤمن بهؤلاء، ومنهم من يأس ولم يصوّت، وآخر عاد لـ”قوقعته” الطائفية الحزبية.

 

يقلق الصحافي جهاد الزين من أن تكون شعلة الأمل التي بثّتها الثورة قد انقضت إلى غير رجعة. ويعتبر أن المعضلة الأساسية التي رافقت هذه التحركات تكمن في عدم ترجمة الصخب الذي أحدثته إلى تغيير سياسي جذري”.

 

ينتقد الزين “ثرثاري الأحزاب”. وبحسب قوله، “لا مشكلة أبداً في أن تكون انطلاقة ثورة 17 تشرين من سفارات أجنبية دعمت التحرّكات وأيّدتها، ومن يجب أن يخجلوا بأنفسهم هم الذين نهبوا البلد وعملاء السفارات الذين يعملون كدمى”.

 

يعتمد الناشط السياسي باسل صالح تعبير انتفاضة وليس ثورة لتحرّكات 17 تشرين. “المسألة أكبر من 6 سنتات ضريبة على “الواتساب” بل على زبائنية النظام، وهجوم مناصري “حزب الله” على المتظاهرين هو دليل على قوة تأثير التحركات آنذاك”. ومن نقاط القوة البارزة هي كسر الحواجز الطائفية والمناطقية بين المتظاهرين، واستعادة المساحات العامة. الطابع المدني الذي طغى على التحرّكات من خلال الجمعيات هو من نقاط الضعف الأساسية التي واجهت انتفاضة تشرين. وبحسب صالح، “عدم خلق حالة استقطابية حال دون الاستمرار في التحركات وفق غياب أي اهتمام للنقابات”. ويتوقع صالح أن يشهد لبنان شكلاً أعنف من التعبير في حال كنا أمام تحرّكات جديدة، نتيجة الإحباط الكبير الذي يخنق اللبنانيين وإثبات محدودية تأثير التحركات السلمية.

شكّلت انتفاضة تشرين محطة مفصليّة في حياة اللبنانيين بصفة عامة، والشباب منهم خصوصاً. كان المشهد الأول الذي اختبر فيه هؤلاء الحياة السياسية النضالية بمعناها الحقيقي، بعيداً من حكايات الحرب الأهلية التي سمعوها من أهاليهم. تسابق الشباب من ساحة إلى أخرى، وحضروا مختلف الجلسات النقاشية في الخيام التي شيّدت في ساحات الانتفاضة.

 

تعتبر الناشطة السياسية فيرينا العميل أنّ لامركزية التحركات هي أبرز نقاط قوة الانتفاضة، ففي تحرّكات عام 2015 حصرت التحركات في العاصمة بيروت على عكس عام 2019 التي امتدت على مساحة الوطن. “الخطاب الهامشي الذي شهدته تحركات سابقة، حلّت مكانها خطبات كسرت الهيمنة الطائفية والمحظورات واهتمّت بقضايا كتلك المرتبطة بالنساء والفئات المهمشة”. وتوافق العميل مع الناشط باسل صالح على أنّ غياب القادة هو من عناصر القوة في التحرّكات.

 

إعطاء الثقة لحكومة حسان دياب التي شُكّلت بعد الانتفاضة، كانت نقطة تحوّل في القدرة على التأثير. “رغم إيجابية غياب القادة عن الانتفاضة، إلا أنها أتعبت المنتفضين وسببت سوء التنظيم في أكثر من حالة”. وتشدّد العميل على الدور السلبي الذي لعبه وباء كورونا في بقاء الناس في منازلها، وتأسف لموجات الهجرة الكبيرة التي شهدها لبنان مؤخّراً. “أوقات بفكّر كيف معظم الأشخاص يلي كنا ننظّم التحركات صاروا برا البلد”.

 

انتفاضة تشرين حاضرة في ذاكرة كلّ من عايشها، ومشاهدها باقية بالرغم من فراغ ساحاتها. 17 تشرين ليس يوماً عابراً، وما رافقه من نجاح وفشل وقمع أكبر بكثير من مجد ذكرى وطنية نحييها من عام للآخر. تذكّروا حسين العطار وعلاء أبو فخر وكلّ من قاوم حدّ الموت في سبيل إحياء لبنان. من أبرز ما قرأت على تويتر اليوم: ” خدلي ليالي كلّ عمري وهات ليلة بعد مثل هالليلة”، مرفقة بصورة من ساحات الانتفاضة الممتلئة.

 

في المحصلة، كسرت 17 تشرين الكثير من “التابوهات” في الحياة السياسية اللبنانية، وزعزعت “قدسية” الزعماء، لكنّها لم تنجح في انتزاع الخيبة من نفوس أجيال تحلم بوطن لا يزال مستحيلاً إلى حين…

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *